هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم من بني أمية، وهم قسم من قريش، أمّه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
وقصة زواج عاصم بن عمر بزوجته المرأة الهلالية الصالحة معروفة مشهورة، وهي أن عمر رضي الله عنه كان يعسُّ في إحدى الليالي كعادته فاتَّكأ على جدار يريد الراحة -لم يكن ينام إلا قليلاً- فسمع حواراً داخل المنزل بين أم وابنتها، وكانت الأم تأمر إبنتها أن تمزج اللبن بالماء حتى يصير كثيراً، وكان عمر رضي الله عنه قد نهى عن ذلك، فرفضت الابنة طلب أمها، وقالت لها: إذا كان أمير المؤمنين لا يرانا، فإن الله تعالى يرانا، فسرّ عمر من الفتاة، وعرف أنها امرأة صالحة فوضع علامة على باب الدار، وذهب إلى أولاده وأخبرهم خبرها، وطلب من هو بحاجة للزواج أن يتزوجها، فقام ابنه عاصم ورضي بالفتاة وتزوجها، فأنجبت له ابنة تزوجها عبد العزيز بن مروان، فجاءت بعمر رضي الله عنه، وقد صدقت فراسة الفاروق فكانت إمرأة صالحة أنجبت الذرّية الصالحة، وكذلك كان جدّه عاصم بن عمر رضي الله عنهما، فقد كان نزر الكلام من حياء وعفّة وحب للمسالمة وإيثار للخير، وقد تعاظم عاصم عن العبث في حياته كلها.
ولد عمر بن عبد العزيز بالمدينة المنورة سنة 61 هـ رحل مع بني أمية إلى الشام بعد وفاة يزيد بن معاوية، تولّى أبوه عبد العزيز ولاية مصر، فذهب معه إليها، ثم مالبث أن طلب من أبيه العودة إلى المدينة ليتعلم من فقهائها فوافق أبوه وسيّره إلى المدينة وجعله عند صالح بن كيسان الإمام الحافظ الثقة ليؤدبه ويعلمه.
كذلك جلس إلى منْ بقي من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، كعبد الله بن عمر ابن الخطاب وعبادة بن الصامت وتميم الداري وأم المؤمنين عائشة وأم هاني بنت أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، ومن التابعين الذين قبسوا من أنوار الهدي النبوي حتى صار من أهل العلم والفقه الذين يشار إليهم.
عندما توفي والده عبد العزيز بن مروان عام 85هـ رحل إلى عمه الخليفة عبد الملك في دمشق فضمّه إلى أولاده، وقدّمه عليهم لما رأى من دينه وخلقه وعلمه وزوّجه ابنته فاطمة، وولاّه إمرة خناصرة من أعمال حلب جنوباً، وعندما تولى الوليد بن عبد الملك الخلافة ولاّه على المدينة المنورة حتى عام 93هـ إنتقل بعدها إلى دمشق، وفي خلافة سليمان بن عبد الملك إستوزره -جعله وزير- ثم عهد إليه بالخلافة من بعده، كما سيأتي ذكرهُ.
لنلقِ الآن نظرة عامة على حياته في شبابه ثم لنقارنها بحياته بعد تولّيه الخلافة ولننظر الفرق الشاسع بين الحالتين وبين الأسلوبين.
كان عمر في شبابه لا يرتدي إلا أغلى الثياب وأفخرها وأثمن الأردية ولا يتطيب إلا بأجود العطر وأثمنه، فكانت رائحة عطره تعصف بالمكان الذي يمر فيه بعد إنصرافه بفترة طويلة فيعرف أنه مرّ من تلك الناحية، وكانت مشيته مشية خاصة تُسمّى بالعُمَرِيَّة، خلاصة القول أنه كان مرفّهاً مدللاً يملك من المال والمتاع الكثير الكثير، ولا غرو فهو سليل بني أمية الذين ملكوا معظم أرجاء الدنيا في ذلك الوقت.
ومع ذلك فقد كان أثناء إمارته للمدينة المنورة أميراً عادلاً محبباً إلى الناس يقرّب العلماء والصالحين، ويستشيرهم في شؤون إمارته، ويبعد الشعراء والخطباء والمتملقين، وقد سار بالناس سيرة حسنة عدلاً وحزماً وحسن خلق.
ولكن كيف غيّر من أحواله، وإنقلبت حياته من رغد العيش ورخائه إلى شدته وضنكه، وقد آلت إليه الخلافة والأموال الطائلة، وصار الآمر الناهي؟ وكيف بدأت إنابته ويقظة قلبه؟ لقد سُئل عمر عن ذلك، فقال غضبت من أحد مواليّ -وكان رجلاً صالحاً- وهممت أن أضربه فقال لي: اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة، وما أعظمها من كلمة أنارت قلب عمر وأعدّته لما قضاه الله له من أمر عظيم، وهو خلافة المسلمين.
كان عمر بن عبد العزيز مقرباً ومحبّباً إلى الخليفة سليمان ابن عمه، وكان هذا يستنصحه ويستشيره في أمور الخلافة فيشير عليه بما يرضي الله ويدله على الخير.
وعندما أحسّ سليمان بقرب أجله وإقباله على الآخرة شغل باله أمر الخلافة، فسأل وزيره الصالح رجاء بن حيوة فقال: مَنْ ترى لهذا الأمر؟ فقال رجاء: إتق الله فإنك قادم على الله وسائلك عن هذا الأمر وما صنعت فيه، فقال له فمن ترى له قال رجاء: عمر بن عبد العزيز، فوافقت هذه المشورة ما في نفس سليمان لأنه كان يحب عمر ويعلم تقواه وصلاحه، ولكنه ذكر لرجاء وصية أبيه عبد الملك بأن تكون الخلافة من بعده في أولاده، ومنهم يزيد بن عبد الملك، فأشار عليه رجاء أن يعهد إلى يزيد بعد عمر، فيكون قد جمع بين الأمرين فأمر بصحيفة وكتب فيها عهده لعمر ومن بعده يزيد ثم دعا رجاء رجال الدولة ليدخلوا على سليمان فأخبرهم بعهده، وأن يشهدوا ويختموا الصحيفة، وأن يبايعوا مَنْ ذكر فيها من غير أن يعلموا من هو ففعلوا وخرجوا من عنده، فجاء عمر بن عبد العزيز لرجاء يستحلفه أن يذكر له شيئاً مما في الكتاب، فإن كان هو المذكور فيه أن يستعفي سليمان منه قبل موته، فرفض أن يخبره شيئاً، وجاء هشام بن عبد الملك يستحلف رجاءً أن يخبره بما في الكتاب ليطلب من سليمان تقليده الخلافة إن لم يفعل!! فرفض أن يخبره، انظر موقف عمر وموقف هشام!!
وما لبث سليمان أن مات وبعد أن فرغوا من تجهيزه ودفنه مضى رجاء إلى المسجد وصعد المنبر وقال: أيها الناس إن أمير المؤمنين كتب كتاباً وعهد عهداً أفسامعون أنتم ومطيعون؟ قالوا نعم قال رجاء: قم يا عمر، وكان هذا عام 99هـ.
فقام رضي الله عنه مغموماً محزوناً لثقل ما ألقي عليه من حمل ولأنه لم يطلب الخلافة، ولم يسعَ إليها وقال: أيها الناس إني قد إبتليت بهذا الأمر من غير رأي مني ولا طلب له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فإختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون... فصاح الناس صيحة واحدة: قد إخترناك لأنفسنا ولأمرنا ورضينا بك كلنا.
فقام وخطب خطبة قصيرة ما أشبهها بخطب الخلفاء الراشدين، فأوصى الناس بتقوى الله، وذكرهم بالموت وأمرهم بأن يطيعوه ما أطاع الله، وإلا فلا طاعة له عليهم.
وهكذا وَلِيَ عمر أمر المسلمين، وصار أثقلهم حملاً، وهو واحد منهم كما قال فماذا أفعل؟ لقد صدّق فعلهُ قولهَ، لقد بدأ بنفسه منذ اللحظة الأولى، فتخلى عن أبهة الملك وصرف مواكب الخلافة التي كانت تقدم لأسلافه وتخلى عن الزينة في دار الخلافة، وباع ما فيها من زينة ومتاع وضمّ ثمنه إلى بيت المال، ونظر إلى ما في يده من أموال فعرف أنه لاحقّ له بها فردّها إلى بيت المال حتى فصّ خاتم في يده.
ثم التفت إلى زوجه الكريمة الناعمة العيش فهي أخت أربعة خلفاء وبنت خليفة وزوج خليفة فما حازت امرأة قط في الدنيا مثلما حازت فاطمة بنت عبد الملك من منزلة رفيعة وعيش هانئ ومال كثير، فرأى ما عندها من الحليَّ والجواهر فخيَّرها بين فراقها أو تحتفظ بها لأنه لاحقّ لها بها من دون نساء المسلمين فإختارته على مال الدنيا كلها لأنها كانت امرأة صالحة عاقلة تعرف أن عمر لا يُقدَّر بمال الدنيا كلها، ورفضت أن يعيدها لها أخوها يزيد عندما تولى الخلافة بعد عمر.
كان لعمر رضي الله عنه كثير من الولد عاشوا جميعاً أثناء خلافته حياة الضيق والشدة، وصبروا على ذلك ومنهم ابنه عبد الملك الذي كان تقياً زاهداً يعين أباه على طاعة الله وردّ المظالم رحمه الله.
هذا عن نفسه وولده وزوجه أما عن بني أمية أهله وعشيرته، فقد غَصَبوا أموالاً طائلة وأراضي شاسعة وضياعاً ومتاعاً كثيراً من أموال المسلمين، فإستردّها منهم وأعادها إلى بيت المال فجنّ جنونهم وطار صوابهم فأرسلوا إليه شفعاء من أقاربهم ليكلّموه بالحسنى، فلم يستِجبْ لهم فأرسلوا إليه عمّة لهم كبيرة وقورة تكلّمه أن يُبقي لهم ما في أيديهم من أموال المسلمين، ولكنه ردّها مُعزّزة مكرّمة رافضاً لطلبها فقالت قولتها الشهيرة: تزوِّجون إبنكم من بنت عمر بن الخطاب، فكيف تريدون أن يكون أولادها؟ أو كما قالت.
وعاودوا المحاولة مرات وبأساليب مختلفة، ولكنهم عادوا بالخيبة والخسران، فعمر التقي الورع الزاهد العفيف يعلم أن الأموال التي بين يديه أمانة عنده إستخلفه الله فيها ليرى ما يصنع، فليس له حق أن يتصرف بأموال الله بغير وجه حق فقال لهم: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم.
بعد هذا كله ليس من الغريب أن تروي لنا كتب التاريخ أنه مات مسموماً وأن قومه هم مدبرو هذه المكيدة لأنهم حرموا في عهده من الإبتزاز والإغتصاب وإمتلاك الأموال بغير وجه حق. فأغروا غلاماً له أن يدسّ له السم في الطعام، وأعطوه ألف دينار، ووعدوه بالعتق، وقد إعترف هذا الغلام لعمر رضي الله عنه بفعله فأخذ منه المال ووضعه في بيت المال!!!
وكان قضاء الله وأمره الذي لا يُردّ فتوفي إلى رحمة الله ورضوانه مع الأئمة العادلين والشهداء الصالحين إن شاء الله تعالى بواسع رحمته وفضله.
توفي عام 101هـ، وقد دام حكمه عامين وخمسة أشهر فقط قام فيها بأعمال جليلة تحتاج إلى عقود كثيرة، فنشر العدل وردّ المظالم، ونشر الأمن وأصلح الأراضي الزراعية، وحفر الآبار، وعمّر الطُّرُق، وأعدّ الخانات لأبناء السبيل، وأقام المساجد دون زخرفة أو تكلف، وعزل الولاة الظالمين وأبدلهم بالصالحين، ورفع رواتب العمال والولاة ليغنيهم عن الخيانة، فسادَ الغنى والسعة، ولم يعد أحد يأخذ الزكاة المفروضة فأعتق بها عبيداً، وإشترى دوراً لمن ليس له دار، وزوّج من كان بحاجة للزواج من المسلمين، ومن الناحية السياسية ناظر الخوارج، فلم يحاربوه وكانوا يقومون على كل خليفة قبله، وأخمد الفتن.
أما الفتوحات فقد إتسعت في عهده، ولكن عهده كان قصيراً، فلم يتمكن من إتمامها، ونشر الإسلام أكثر مما فعل، وقد أبطل كثيراً من المنكرات منها سبّ علي كرم الله وجهه على المنابر، ففي عهده كانت القسطنطينية محاصرة منذ عهد مَنْ سبقه فرأى بثاقب نظره، أن هذا الوقت غير ملائم لفتحها وجنوده معرضون للهلاك، فأمر قائده مَسلَمة أن يعود بالجيش، ويفك الحصار خوفاً على المسلمين من الهلاك.
وفي عهده أغار الترك على أذربيجان فوجّه لهم جيشاً بقيادة حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل الترك وأسر منهم، كذلك غزا قوّاده بلاد الروم وفرنسا فإخترقوا جبال البرانس ومقاطعتي سبتمانيا وبروفانس، ونشبت هناك معركة عظيمة إستشهد فيها قائده الشيخ ابن مالك الخولاني، وتولّى إمرة جيوش المسلمين بعده البطل العظيم عبد الرحمن الغافقي.
وما لبث أن توفي عمر رحمه الله، وأجزل له الأجر والثواب وجعله في المرضيين، إنه سميع مجيب، وكان عمره أربعين عاماً، أما أخبار زهده وتواضعه، وحرصه على أموال المسلمين فهي أكثر من أن تحصى:
فقد كان إذا جلس إلى الناس ليحكم في أحوال الرعية يضيء السراج، وإذا سأله أحد عن أحواله الخاصة يطفئ السراج!! شكت له امرأة سوداء من مصر أن حائطها قصير وأن دجاجها يُسرق، فكتب إلى عامله في مصر أن أعْلِ لها حائطها وحصّن لها بيتها ففعل!
قَدِمت إليه امرأة من العراق فقالت: هل على أمير المؤمنين حاجب؟ فقالوا لا فَلِجي إن أحببت فدخلت على زوجته فاطمة، وفي يدها قطن تعالجه فسلّمت وجلست ثم رفعت بصرها، فلم تَرَ في البيت شيئاً ذا بال فقالت: إنمّا جئت لأعمرّ بيتي هذا البيت الخراب، فقالت لها فاطمة: إنما خَرّب هذا البيتَ عمارةُ بيوت أمثالك! ثم جاء عمر رضي الله عنه وسأل المرأة عن حاجتها وقضاها لها.
هذا قليل من كثير ذكرناه من سيرة هذا الخليفة الزاهد في هذه العجالة التي نرجو الله تعالى أن ينفع بها.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الكرام.
الكاتب: آمنة الأسعد.
المصدر: موقع منبر الداعيات.